قراءة دقيقة لتاريخ المنطقة خلال العقدين الأولين من القرن الماضي تعيد تأكيد حرص الهاشميين على عروبة فلسطين وجهودهم للحفاظ عليها ونصرة شعبها، وتكشف تحايل دول استعمارية ونكثها لوعودها للعرب في سبيل إنشاء إسرائيل.
الجزء الثالث والأخير من وثائقي قناة المملكة، "الهاشميون والقدس"، يوضح كيف طغت أطماع بريطانيا وفرنسا الاستعمارية على الوفاء بوعودهم للشريف الحسين بن علي، شريف مكة، ولابنه الأمير فيصل الأول، إذ بات تأسيس "وطن قومي لليهود" على أرض فلسطين ورقة للضغط على الهاشميين.
عندما قابل أستاذ العلوم السياسية غازي ربابعة السير جون قلوب باشا، الذي تولى قيادة الجيش الأردني لمدة 27 عاماً، سأله عدة أسئلة كان أبرزها: "لماذا غدرتم بالشريف الحسين الذي أعلن الثورة العربية الكبرى وقاتل معكم في صفوف الحلفاء؟".
رد الجنرال البريطاني أن بلاده كانت بأمس الحاجة لأن تشارك معها الولايات المتحدة كحليف في الحرب العالمية الأولى، واحتاجت لندن لتقديم عرض مغر لليهود في أميركا للضغط على حكومتهم.
غدرنا بعهودنا مع الشريف الحسين ونقضنا هذه العهود وأعطينا وعد بلفور مقابل أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يقنع الولايات المتحدة الدخول معنا في الحرب العالمية الأولى السير قلوب باشا
ويبدو أن رئيس الوزراء البريطاني خلال فترة الحرب العالمية الأولى، لويد جورج، "كان مهتماً فقط بالمصالح الاستعمارية البريطانية ولم يكن لديه أي إحساس بالولاء أو المسؤولية تجاه أي من حلفائه"، وفق المؤرخ البريطاني آفي شليم.
"وطن قومي لليهود"
نص الرسالة التي بعثها جورج في 1917 إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة، يظهر أول خطوة رسمية يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين. وجاء في الرسالة، التي عرفت فيما بعد باسم "وعد بلفور":
"عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية".
وللحصول على مباركة عربية لهذا الوعد، بعثت بريطانيا لشريف مكة في يناير 1918 مبعوثا يؤكد له رغبة بريطانيا في منح اليهود ملاذاً في فلسطين، لكن المبعوث لم يذكر وعد بلفور أمام الشريف الحسين.
الشريف الحسين رفض هذا المشروع وحاولت بريطانيا معه بشتى الوسائل أن يوافق على إنشاء مشروع قيام دولة إسرائيلية في فلسطين ولكنه رفض ذلك كل الرفضقاسم صالح، مدير أسبق للتوجيه المعنوي في الجيش العربي.
كان إصرار شريف مكة واضحاً: "نرفض أي تنازل عن أي شبر من فلسطين، شبر في مكة يساوي شبراً في القدس".
بعد الحرب العالمية الأولى وأثناء مباحثاته مع البريطانيين، شعر الشريف الحسين بالخديعة التي وقع فيها، وفقاً للمؤرخ الأردني علي محافظة.
البريطانيون وصفوا الشريف الحسين "بالتصلب" لأنه لم يقبل بأي شكل من الأشكال أن يعترف باتفاقية سايكس بيكو، التي أخضعت المنطقة لنفوذ بريطانيا وفرنسا، ووعد بلفور، بحسب محافظة.
للالتفاف على صلابة الحسين، قام حاييم وايزمان، الذي ترأس بعثة صهيونية من بريطانيا إلى فلسطين، بمقابلة الأمير فيصل، قائد جيش الثورة العربية الشمالي، بهدف الحصول على موافقة الهاشميين على وعد بلفور، وفقاً للمؤرخ شليم.
لم يكن هناك علم عند الأمير فيصل بأطماع الحركة الصهيونية في فلسطين جبر الخطيب، رئيس قسم التاريخ في جامعة اليرموك
إدعاءات زائفة واجتزاء الحقيقة
وايزمان قال بعد اللقاء إنه حصل على موافقة الأمير فيصل على وعد بلفور، لكن وثائق بريطانية رسمية كشفت كذب إدعاءات وايزمان.
وفقاً لإحدى الوثائق: "اتفق المسؤولان على التعاون الوثيق بين اليهود والعرب ... لكن فيصل رفض إصدار بيان بالترتيبات السياسية المحددة التي يرتئيها قائلاً إن والده فقط هو الذي يملك سلطة إصدار مثل هذا البيان".
"كان هدف فيصل أنه في حال قيام دولة عربية قوية جداً فبإمكانها أن تأوي منظمة يهودية لن تشكل خطراً على باقي مناطق الدولة العربية"، بحسب المؤرخ الفرنسي، جاك فريمو.
أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث، يوغين روغان، أيد هذا الرأي، مضيفاً أن "فيصل ربط تعاونه بالتزام البريطانيين بكل شيء وعدوا به".
بعد فشل مساعي وايزمان، نسق توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ "لورنس العرب"، الذي كان ملازماً ومترجماً ومستشاراً للأمير فيصل، للقاء جمع وايزمان مع فيصل في لندن قبل توجه الأمير الهاشمي لتمثيل الشريف الحسين في مؤتمر السلام في باريس.
قدم لورنس اتفاقية مطبوعة باللغة الإنجليزية للأمير، وقدم للأمير ترجمة شفوية غير دقيقة للاتفاقية المكتوبة بالإنجليزية التي لا يتقنها فيصل، إلا أن ما استشفه الأمير من الترجمة، أصابه بالارتياب، فكتب تحفظاً باللغة العربية.
إذا نالت العرب استقلالها كما طلبناه بتقريرنا المؤرخ في 4 كانون الثاني يناير سنة 1919 المقدم لنظارة خارجية حكومة بريطانيا العظمى فإنني موافق على ما ذكرنا في هذا من المواد وإن حصل أدنى تغيير أو تبديل فلا أكون ملزوماً ومربوطاً بأي كلمة كانت بل تعد هذه الوثيقة كلا شيء ولا حكم لها ولا اعتبار ولا أطالب بأي صورة كانت الأمير فيصل الأول
لكن ترجمة لورنس كانت مغايرة لما كتبه فيصل: "إذا تم تأسيس العرب كما طلبت في بياني المؤرخ في 4 كانون الثاني يناير الموجه إلى وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية [؟]، فسوف أنفذ ما هو مكتوب في هذا الاتفاق. وإذا أجريت تغييرات، لا يمكنني أن أكون مسؤولاً عن الفشل في تنفيذ هذا الاتفاق".
استخدم وايزمان الوثيقة في أعماله الدعائية للحركة الصهيونية، وقدّم نسخة منها للوفد الأميركي في مؤتمر السلام دون تحفظ فيصل ودون ترجمة لورنس له.
يرى المؤرخ الفرنسي فيليب بريفو أن "الخطأ الفظيع الذي ارتكبه العرب أنهم كانوا أناساً طيبين. أي أنهم وثقوا في نزاهة وايزمان، غير أن وايزمان ليس رجلاً نزيها، أقصد من الناحية الفكرية. وأضيف أن فيصل أضاف فقرة تحفظ، قال فيها إنه وقع ولكن بتحفظ. إذا فإن هذا الاتفاق لا يساوي شيئاً".
مؤتمر الصلح 1919
عندما توقف فيصل في لندن في طريقه إلى باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح عام 1919 التقاه محرر الصحيفة اليهودية "جويش كرونكل".
لا نستطيع التنازل عن فلسطين. سنحارب حتى نبقيها عربية وتحت سيادة عربية الأمير فيصل الأول لصحيفة "جويش كرونكل"
قدّم فيصل في يناير 1919 مذكرة إلى مؤتمر الصلح أكد فيها مطالب العرب بوحدة واستقلال بلادهم بما فيها فلسطين، مطالباً بدولة تمتد "من خط الإسكندرونة ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً".
ووفقاً للمؤرخة الفرنسية، نادين بيكودو، "فيصل قدّم نفسه كمتحدث رسمي باسم عرب آسيا، وطرح برنامجاً توافق عليه مع القوميين العرب خلال الفترة التي قضاها في دمشق سنة 1916، واتفق معهم، ضمن ما سمي بميثاق دمشق، للمطالبة بدولة عربية كبرى في المستقبل".
ردّت الحركات الصهيونية المشاركة في المؤتمر على فيصل بمذكرة ﻃﺎﻟﺒﺖ فيها باﻻﻋﺘﺮاف بـ "الحق اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﻴﻬﻮد في ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ واﻻﻋﺘﺮاف ﺑﺤﻖ اﻟﻴﻬﻮد في إﻋﺎدة إﻗﺎﻣﺔ وﻃﻦ ﻗﻮﻣﻲ ﻟﻬﻢ في ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ."
تحفظت بريطانيا وفرنسا على مطالب الأمير فيصل بأن تكون فلسطين ضمن نطاق الدولة العربية المأمولة، فطالب فيصل بتشكيل لجنة تحقيق دولية تزور سوريا وفلسطين، لتقصّي رغبات شعبها.
استجاب الرئيس الأميركي لمطلب فيصل، وكلّف مجموعة بالتحقق من مواقف السوريين والفلسطينيين حول مستقبل بلادهم.
في ذلك الوقت، شددت بريطانيا ضغوطها على الأمير فيصل، للموافقة على اتفاقية سايكس بيكو وعلى منح سوريا لفرنسا، والتسامح مع المطامع الصهيونية في فلسطين.
وقّع فيصل ورئيس الحكومة الفرنسية آنذاك، جورج كليمنصو، اتفاقاً في يناير 1920 يمثل حلاً وسطاً لمطالب الطرفين أقرّ كليمنصو بموجبه بموافقة بلاده على الاعتراف بدولة سورية مستقلة.
... سوريا التي يقترحها فيصل ليست سوريا التي يقترحها (رئيس الوزراء الفرنسي جورج) كليمنصو. سوريا التي يقترحها فيصل تضم فلسطينجولي داندوران، مؤرخة دراسات عسكرية
في سبتمبر 1919 سحبت بريطانيا قواتها من دمشق وتنازلت عن لبنان للجيش الفرنسي، بينما أبقت الجهة الجنوبية، أي فلسطين في حوزتها، لتترك فيصل والفرنسيين وجهاً لوجه.
داندوران تقول إن هذا الاستبدال خلق مشاكل كبرى بين العرب، وعلى الخصوص الشريف الحسين الذي رأى أن الفرنسيين سيحلون مكان الإنجليز بعد أن كان يعتقد أن الجيوش الهاشمية هي التي ستحل مكانهم.
شعور العرب بالخذلان
قوبلت الخطوة البريطانية - الفرنسية برفض شديد، فتنادى العرب لعقد مؤتمر عام في 8 مارس 1920 لبحث سبل التصدي لحقوقهم المهضومة.
ويقول الخطيب: "المؤتمر نصّ على عدم الاعتراف بوعد بلفور وأن يكون الأمير فيصل ملكاً على سوريا ونعني بسوريا هي سوريا الطبيعية شرق الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان،" لكن بريطانيا وفرنسا رفضتا ذلك.
وجّه الجنرال هنري غورو إنذاراً لفيصل بوجوب مغادرة سوريا، لكنه لم يمثل للإنذار، فوقعت معركة ميسلون، التي أدت إلى أن يصبح الأردن وفلسطين منطقة من دون إدارة سعد أبو دية، مؤرخ أردني
نقل الإنجليز للشريف الحسين في 1921 رسالة عبر لورنس مفادها أنهم سيضمنون حماية أمن وسلامة مملكة الحجاز إذا وافق على وعد بلفور، لكنه رفض.
"كان رجل مبادئ ورجلاً نزيهاً، وقال إنه لن يوافق على هذا الوعد أبدًا"، بحسب شليم.
لا أقبل إلا أن تكون فلسطين لأهلها العرب، لا أقبل بالتجزئة، ولا أقبل بالانتداب، ولا أسكت وفي عروقي دم عربي عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتها للعرب، وإذا رفضت الحكومة البريطانية التعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلهاالشريف الحسين، شريف مكة
بريطانيا تخلت عن الشريف الحسين ومنعت عنه الإمدادات العسكرية والمالية، وحرمت أبناءه من الوصول إليه فتنازل عن العرش لابنه علي وتوجه إلى العقبة.
"حاول الشريف الحسين أن يكشف رسائل بريطانيا وعندما تم الضغط عليه للتنازل عن هذا الحق الفلسطيني رفض رفضاً مطلقاً وضحى بعرشه وملكه من أجل عروبة فلسطين"، وفق صالح.
في الثالث من يونيو عام 1931 توفي الشريف الحسين في عمان، وليواري الثرى تنفيذاً لوصيته في باحة المسجد الأقصى في القدس. ليحتضنه ثراها الذي حرم منه في حياته.
المملكة